الصفحة الأساسية > NATION-ALGERIE > رحيل بيار شولي، الجزائري الذي فضل على طائفته الإنسانيّة

بيار شولي... مناضلٌ موطنه العدالة

رحيل بيار شولي، الجزائري الذي فضل على طائفته الإنسانيّة

Pierre Chaulet, qui à la différence de Camus, a préféré l’Humanité à sa communauté d’origine

الثلاثاء 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2012

مع زوجته كلودين غِيُو - شولي

ياسين تملالي

"الأخبار"، بيروت 9 أكتوبر 2012

في يوم 5 أكتوبر الماضي، رحل عن دنيانا، بعد مرض عضال، بيار شولي، أحدُ مناضلي الجزائر من أجل استقلالها وأحدُ رموز كفاح الشعوب من أجل التحرر، ممّن فضلوا - عكسَ ألبير كامو- العدالة على "طائفتهم" وأزاحوا عن أعينهم غشاوة الإيديولوجية الاستعمارية التي كانت تبرر الاحتلالَ ليَروا - ويُرُوا العالم - حقيقتَه البشعة.

ولد بيار شولي سنة 1930 في أسرة شاركت الأسرَ الأوربية التي استوطنت الجزائرَ بعد احتلالها في 1830 تعدُّدَ أصولها القومية وتميّزت عن معظمِها بالتزامها السياسي، من خلال نشاط متّصل في مختلف منظمات التيار "الكاثوليكي الاجتماعي" من كشّافة وجمعيّات شبابية ونقابات عمالية.

ويعود الفضلُ إلى هذا المنشأ في وعي بيار شولي واقعَ من كانت الإدارةُ الاستعمارية تسمّيهم "الأنديجان"، أي الجزائريين غير الأوروبيين، والهاويةَ السحيقة من الميز العنصري والديني والاجتماعي واللغوي التي كنت تمنعُهم من أن يكونوا إخوتَه ومواطنيه. وتعمّق وعيُه هذا وهو طالبٌ في كلية الطب من خلال اتّصالاته بمناضلي القضية الوطنية على اختلاف مشاربهم (من المدافعين عن مطلب الاستقلال التام إلى الداعين إلى "المساواة في إطار الدولة الفرنسية"). وفي خضمّ الحراك السياسي والتنظيمي الذي ميز سنتي 1954 و1954 إثر انشقاق التيار الاستقلالي، ما لبث اقتناعُه بلاإنسانية الوضع الكولونيالي أن تحوّل إلى التزام راديكالي، جسّده التحاقُه بجبهة التحرير الوطني في 21 نوفمبر 1954، أي ثلاثة أسابيع بعد اندلاع الثورة. وكان هذا الالتزامُ (وما أكثر مخاطرَه إذا تذكرنا أن "الجبهة" لم تكن آنذاك سوى "نواة جبهة") هو ذاتَه، وفي نفس الوقت، التزامَ زوجته كلودين غِيُو-شولي، المولودة في فرنسا في أسرة جمهورية استقرّت في الجزائر سنة 1946.

من 1954 إلى 1956، نشط بيار شولي في الخلايا السرية لجبهة التحرير في الجزائر وكُلف هو وكلودين شولي بمهامَّ صعبة منها إخفاء وتهريب قادة الثورة وترتيب اتّصالاتهم مع الشخصيات الأوروبية التقدمية (ومنها بعض زعماء الكنيسة الجزائرية) بغرض كسب تأييدهم لمطلب الاستقلال، وقد تمّ اعتقالُه ثم أطلق سراحُه فاستأنف نضالَه السريّ والعلني محاصَرا بمضايقات البوليس وتهديداته إلى أن أمرت الإدارة الاستعمارية بإبعاده إلى فرنسا.

ومن فرنسا سافر بيار شولي مع زوجته إلى الجمهورية التونسية المستقلة حديثا، والتحق بأسرة تحرير جريدة "المجاهد" الناطقة باسم المقاومة حيث عمِل إلى جانب كل من عَبّان رمضان، "عقل الثورة المدبّر"، و"جزائري المارتينيك" فرانتز فانون، وقام هو وكلودين بمهامّ كثيرة كلفتهُما بها الحكومةُ الجزائرية المؤقتة في تونس وخارجها.

وبعد الاستقلال في يوليو 1962، عاد بيار وكلودين شولي إلى موطنهما واختارا التجنّسَ بالجنسية الجزائرية، ولم تُعدم الجزائرُ الفتيّة فيهما شخصين متفانيين في أداء ما كان يسمى في لغة تلك الحقبة "مهام التشييد الوطني": عمِل هو كبروفيسور وممارٍس طبّ فكان أحد مهندسي منظومة الصحة العمومية، فيما اشتغلت هي، حتىّ تقاعدِها، كسوسيولوجية مختصة في دراسة الوسط الريفي في العديد من المراكز البحثية وكذلك في جامعة الجزائر.

ومن 1962 حتى وفاته في 5 أكتوبر الماضي، عاش بيار شولي أفراحَ بلده وأحزانها. سعِد بسنواتها الباسمة المتفائلة، سنوات "الصحة المجانية" و"تعميم التعليم" و"تأميم البترول و"الثورة الزراعية" وعاصر "العشريةَ السوداء" تحت حكم الرئيس الشاذلي وتفريطَها في مكاسب الاستقلال باسم "النجاعة الاقتصادية"، واكتوى بنار التسعينيات الدامية التي أجبرته، هو وزوجته، على الرحيل إلى المنفى من 1994 إلى 1999، وأمضى السنوات الثلاثة عشر الأخيرة من حياته، وهي "السنوات البوتفليقية"، دون أن يفقد الأملَ في رؤية بلده يغادر نفق مآسيه المتجدّدة إلى فضاء النور.

وقد نشر بيار وكلودين شولي في 2012 مذكراتِهما بعنوان "خيار الجزائر: صوتان وذاكرة" (دار البرزخ، الجزائر)، ومكّنتهما الندوات التي تلت نشرَه من التواصل مع كثير من الجزائريين، فريقٌ لا يستهان به منهم كان يجهل مساهمتَهما (ومساهمةَ غيرهما من "أوروبيي الجزائر") في نيل الاستقلال. ويمكن القولُ إنّ خوفَهما من اندثار هذا الجانب من تاريخ الثورة تحت ركام النسيان هو ما دفعَهُما إلى إصدار هذا الكتاب راجييْن، كما كتبا في خاتمته، "أن يجد فيه الشبان والشابات الجزائريون (...) عناصرَ ماض لا يعرفونه جيداً، وقد لا يتصورون أصلاً أنه وُجِد (...)، وأن يكوِّنوا عن بلدهم صورةَ حداثة وانفتاح، هي صورةُ الرجال والنساء الذين ألقوا بأنفسهم في غمار الكفاح التحرّري".

ستذكر الجزائرُ دائما في بيار شولى رجلا فضّل على الانغلاق الشوفيني الانتماءَ الكوني إلى معسكر الحرية وضرب مثلا نادرا للأخوة الإنسانية بمشاركته في إحدى أشرس حروب التحرير في التاريخ. لتخلُد ذكراه ولتكن نبراسا ينير الطريق لكل إخوانه البشر، في الجزائر وغير الجزائر.

ياسين تملالي


عرض مباشر : http://www.al-akhbar.com/node/168993

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك
  • لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

  • رابط هايبرتكست

    (إذا كانت مشاركتك تشير إلى مقال منشور على النسيج أو صفحة توفر المزيد من المعلومات، الرجاء إدخال اسم هذه الصفحة وعنوانها أدناه).